المبحث الأول: معنى السياق وأقسامه وأهميته
المطلب الأول: تعريف السياق
المطلب الثاني: أقسام السياق
المطلب الثالث: أهمية السياق وعناية العلماء به
المبحث الثاني: أسباب النزول؛ أهميته وعلاقته بالسياق
المطلب الأول: تعريف أسباب النزول
المطلب الثاني: أهمية أسباب النزول
المطلب الثالث: علاقة السياق بأسباب النزول
المطلب الرابع: العام إذا ورد على سبب خاص
المبحث الأول: معنى السياق وأقسامه وأهميته
المطلب الأول: تعريف السياق
السياق في اللغة: التتابع، تساوقت الإبل؛ أي: تتابعت، وسوَّاق الإبل: الذي يَقْدَمها ويسوقها أمامه للمرعى والماء.
ويطلق السياق كذلك على المهر؛ لأن أصل المهر عند العرب الإبل والغنم، وكانوا يسوقونها عند الزواج مهرًا، ثم استعمل في المهر وإن لم يكن إبلًا ولا غنمًا([1]).
وفي أساس البلاغة: “يسوق الحديث أحسن سياق، وإليك يساق الحديث، وهذا الكلام على مساقه إلى كذا، وجئتك بالحديث على سوقه: على سرده”([2]).
السياق في الاصطلاح:
التعريف الاصطلاحي مأخوذ من المعنى اللغوي، فهو يحمل معنى التتابع وتوالي الكلام إثر بعضه، وهناك تعريفات كثيرة للسياق؛ فموضوع السياق أُلِّفت فيه كتب ورسائل عديدة، وسأقتصر على ذكر أهم التعاريف؛ لأن الهدف هو إيضاح معنى السياق.
لم يورد العلماء القدامى تعريفًا للسياق، ولكن ذكروا ما يمكن أن يعتمد عليه في وضع تعريف له، ومما ذكروه في شأن السياق، ما أورد الزركشي في البحر المحيط، حيث قال: “ويجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن، لأن بذلك يتبين مقصود الكلام”([3])، حيث بين أن السياق ما يدل على مقصود الكلام.
وكذلك ما ذكره ابن دقيق العيد في أثناء كلامه عن السياق، حيث قال: “لأن السياقَ مبيِّنٌ للمجمَلات، مرجِّح لبعض المحتمَلات، مؤكِّد للواضحات”([4]). يفهم من هذا أن السياق له تأثير على بيان المجمل، وترجيح أحد المعاني المحتملة، وتأكيد ما هو واضح.
تعريف البناني([5])، عرفه بأنه: “ما يدل على خصوص المقصود من سابق الكلام المسوق لذلك أو لاحقه”([6]).
وعرفه عبد الوهاب أبو صفية: “الكلام الذي خرج مخرجًا واحدًا، واشتمل على غرض واحد، هو المقصود الأصلي للمتكلم، وما انتظمت أجزاؤه في نسق واحد”([7]).
ويؤخذ على هذين التعريفين أنهما حصرا السياق في الجانب المقالي أو اللغوي، المتضمن للسباق واللحاق، ولم يعتبرا السياق المقام أو الحال.
وعرفه أشرف الكناني([8]): بأنه “الكلام المتتابع إثره على إثر بعض، المقصود للمتكلم، والذي يلزم من فهمه فهم شيء آخر”([9]).
ومما يؤخذ على هذا التعريف غير اقتصاره على السياق اللغوي، أنه جعل لازمًا من فهمه فهم شيء آخر، وهذا ليس بلازم؛ فقد يتغير الفهم عند تأمل السياق الذي ورد فيه النص، وربما لا يحدث التأمل في السياق أي تغيير في الفهم فيما لو قطع النص عن سياقه، فقد يرد كلام يتعلق بعضه ببعض ولكن لو أخذت كل قطعة منه على حدة فإنها تُفهم كما لو كانت ضمن السياق الذي وردت به.
وعرفه سعيد بن محمد الشهراني بقوله: “هو ما يحيط بالنص من عوامل داخلية أو خارجية، لها أثر في فهمه، من سابق أو لاحق به، أو حال المخاطِب والمخاطَب، والغرض الذي سيق له، والجو الذي نزل فيه”([10]).
وهذا أوفق التعاريف وأكثرها دقة وشمولًا؛ لأنه أدخل في التعريف سياق الحال أو المقام، وهو ما يصاحب النص من أحوال وعوامل خارجية لها أثر في فهمه؛ كحال المتكلم والمخاطب والبيئة التي ورد فيها والغرض الذي سيق له. وهذه كلها لها تأثير على الفهم الصحيح للنص.
المطلب الثاني: أقسام السياق
ينقسم السياق إلى قسمين:
الأول: سياق المقال (السياق اللغوي)
ويتمثل في الجُمَل المكوِّنة والسابقة واللاحقة لنص الخطاب المراد تفسيره واستخلاص المقصود منه. وهو ينقسم إلى: سياق خاص؛ وهو السابق واللاحق للنص نفسه، وسياق عام؛ أي النصوص الأخرى التي لها علاقة بهذا النص، مع ورودها في مواضع وأزمنة مختلفة، حيث يكون استحضار تلك النصوص معينًا على فهم هذا النص([11]).
مثال تأثير سياق المقال على فهم النص: قوله تعالى: ﴿وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ﴾ [الأعراف: 163]، الذي يفهم من الآية أن السؤال عن القرية ذاتها، ولكن قوله بعد ذلك: ﴿إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ﴾ دلت على أن المراد هو السؤال عن أهل القرية؛ لأن القرية لا تكون عادية([12]).
الثاني: سياق المقام (الحال)
ويدخل فيه البيئة والظروف الاجتماعية السائدة وقت ورود النص، وتاريخ وروده والمكان الذي ورد فيه، ويدخل فيه أيضًا أسباب النزول، فهذه كلها عوامل لها أهمية في الفهم الصحيح للنص، ولذلك نجد أن الكلام المشافَه به أوضح دلالة على مراد المتحدث من الكلام الذي بلَّغه عنه مبلِّغ، أو الكلام الذي نُقل كتابة دون نقل الظروف والأحوال التي ورد بها الكلام، وفي ذلك يقول الشاطبي: “وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة؛ فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه”([13]).
وليس من اللازم أن يحتاج كل كلام إلى نقل الظروف المحيطة به والسياق الذي ورد فيه؛ لأنه ليس كل كلام واردًا في مقام خاص، بل منه ما يكون على سبيل التوجيه والإرشاد؛ كما في كثير من الآيات التي نزلت من غير سبب خاص، وإنما الذي يحتاج إلى الاطلاع على المقام لتحديد معناه، هو ما ورد في مقام خاص([14]).
وهذا له تعلق بأسباب النزول؛ لأن أسباب النزول جزء من سياق المقام، وهذا ما سأذكره بعد قليل إن شاء الله.
المطلب الثالث: أهمية السياق وعناية العلماء به
للسياق أهمية كبيرة في فهم مراد المتكلم، فقد يكون ظاهر الكلام دالًّا على معنى متبادر من اللفظ، ولكن إذا نظرنا في سياقه الذي جاء فيه، نجد المعنى يختلف تمامًا، كما في قوله تعالى: ﵟذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُﵞ [الدخان: 49]، فالعزيز الكريم هنا ليست على المعنى المتبادر منها، إنما المراد بها الاستهزاء، ومعناها: الحقير الذليل، فهمنا هذا المعنى من سياق الآيات: ﵟإِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ ٤٣ طَعَامُ ٱلۡأَثِيمِﵞ [الدخان: 43-44] إلى قوله: ﵟثُمَّ صُبُّواْ فَوۡقَ رَأۡسِهِۦ مِنۡ عَذَابِ ٱلۡحَمِيمِﵞ [الدخان: 48].
يقول الشاطبي: “المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل… فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها؛ فإن القضية وإن اشتملت على جمل؛ فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرّق النظر في أجزائه؛ فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض… وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل؛ فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر”([15]).
ومن فوائد معرفة السياق ما ذكره ابن القيم، حيث قال: “السياق يرشدُ إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالَّة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته”([16]).
فمراعاة السياق من أهم الأسباب المؤدية إلى حسن فهم النص الشرعي، ودفع الفهوم والتفسيرات المُتَفَلِّتة من ضوابط وقوانين الفهم السليم.
يقول الطاهر بن عاشور: “لم يستغنِ المتكلمون والسامعون عن أن تحف بالكلام ملامحُ من سياق الكلام، ومقام الخطاب، ومبيّناتٌ من البساط، لتتظافر تلك الأشياءُ الحافة بالكلام على إزالة احتمالاتٍ كانت تعرض للسامع في مراد المتكلم من كلامه. ولذلك تجدُ الكلامَ الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بَلَّغَه عنه مبلّغ، وتجد الكلامَ المكتوب أكثرَ احتمالاتٍ من الكلام المبلّغ بلفظه بله المشافه به؛ من أجل فقده دلالة السياق وملامح المتكلّم والمبلّغ، وإن كان هو أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم.
ومن هنا يقصر بعض العلماء ويتوحّل في خَضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجّه رأيه إلى اللفظ مقتنعاً به، فلا يزال يقلَّبه ويحلّله ويأمل أن يستخرج لُبَّه. ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحفُّ بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق… وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرّفات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا على استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدّون الرحال إلى المدينة ليتبصّروا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين. هنالك يتبيّن لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، وليتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعاً لمعرفة الحكم والمقاصد”([17]).
ومن الأمثلة على ذلك: استدلال عائشة على وجوب السعي بين الصفا والمروة بقرائن السياق المقالية والمقامية؛ عن عروة بن الزبير، قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ﴾ [البقرة: 158]، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوَّلتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنـزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يُهِلُّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل، فكان من أهلَّ يَتَحرَّج أن يطوف بالصفا والمروة، فلمّا أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرَّج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنـزل الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ ﴾ [البقرة: 158] الآية، قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بينهما([18]).
فقد استدلت عائشة رضي الله عنها على قطعيّة وجوب السعي بين الصفا والمروة بقرينة مقالية، وقرينتين مقاميَّتين؛ فالمقالية، هي: أنه لو كان المراد إباحة الطواف لا وجوبه، لكان النص: {فلا جناح عليه ألَّا يتطوف بهما}، والقرينتان المقاليتان هما: سبب نـزول الآية الدالِّ على تحرُّج الأنصار من الطواف بهما، والأخرى هي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يتعلق بالسياق علم المكي والمدني، فهو يضيف للنص بُعداً زمنياً ومكانياً يمكن الإفادة منه في توجيه معنى النص، وتطبيقه في الأزمنة التي تناسب الحال الذي نزل فيها؛ لذا لم يقف الحذاق من المفسرين على تحديد معنى اللفظ، وإنما تجاوزوه إلى ربطه بالسابق واللاحق من الآيات، ومن هنا نشأ ما يعرف بعلم المناسبات، وفائدته كما ذكر الزركشي “جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء”([19]).
المبحث الثاني: أسباب النزول؛ أهميته وعلاقته بالسياق
المطلب الأول: تعريف أسباب النزول
لفظ أسباب النزول مركب إضافي من كلمتين: أسباب، وهي جمع سبب، والسبب في اللغة: هو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء([20]). والنزول: الانحطاط من علو([21]).
هذا من حيث اللغة، أما اصطلاحًا: فهو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه مُبَيِّنة لحكمه أيام وقوعه. بمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو سؤال وجه إليه فنزلت الآية أو الآيات من الله تعالى ببيان ما يتصل بتلك الحادثة أو بجواب هذا السؤال([22]).
المطلب الثاني: أهمية أسباب النزول:
إن معرفة أسباب النزول طريق قوي في فهم معاني كلام الله عز وجل، ولا يمكن فهم الآية على وجهها الصحيح ما لم يُعلم سبب نزولها وبيان قصتها([23]).
هذا وقد عدد الزركشي فوائد معرفة أسباب النزول، ومن الفوائد التي ذكرها([24]):
- بيان وجه الحكمة الباعثة على التشريع.
- تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
- الوقوف على المعنى، فمعرفتها طريق قوي في فهم معاني القرآن الكريم.
- أنه قد يكون اللفظ عامًّا ويقوم الدليل على التخصيص، فمحل السبب لا يجوز إخراجه بالتخصيص بالإجماع؛ لأن دخوله قطعي، وفي إخراجه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وعدول عن محل السؤال.
- دفع توهم الحصر؛ مثاله: قوله تعالى: ﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمًا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٍ﴾ [الأنعام: 145]، فإن سبب نزولها: أن الكفار لما أحلّوا ما حرم الله، وحرموا ما أحلّ الله، جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير، ولم يقصد حل ما وراء ذلك؛ إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحلّ.
- إزالة الإشكال، فعن مروان أنه قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئٍ فرح بما أُوتي، وأحبَّ أن يُحمَد بما لم يفعل مُعَذَّبًا، لَنُعَذبَنّ أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ﴾، حتى قوله: ﴿يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ﴾ [آل عمران: 187_188]([25]).
المطلب الثالث: علاقة السياق بأسباب النزول
العلاقة بين أسباب النزول والسياق علاقة مشتركة؛ فكما أن أسباب النزول تُعين على معرفة السياق، فإن السياق وسيلة مؤثرة في بيان الأصح من أسباب النزول؛ فالكثير من الأسباب لا تخلو من اعتراض، ولعل أهم معيار يمكن به إثبات سبب النزول أو رفضه هو السياق؛ فقد يأتي سبب النزول متفقاً تماماً مع السياق، فيكون السياق مقوياً للرواية وداعمًا لها، وقد لا يتفق السبب مع السياق، فيُنظر عند ذلك في الرواية؛ بتأويلها إن أمكن، أو عدم قبولها كسبب للنزول، وبخاصة أن بعض الروايات تكون اجتهاداً من الصحابي، أو يقصد بها أن الآية استُدِلّ بها على الحكم، فنقلت على أنها سبب للتنزيل.
قال الشاطبي موضحاً فائدة أسباب النزول بمعناها العام المرتبط بالسياق، وتَلازُم الصلة بين السياق وأحوال التنزيل: “معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يُعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب؛ إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حاله، وبحسب مخاطبيه، وبحسب غير ذلك… وإذا فات نقل بعض القرائن الدالّة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بدّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال.
وينشأ عن هذا الوجه: الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل مُوقِع في الشُّبَه والإشكالات، ومُورِدٌ للنصوص الظاهرة مَورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع”([26]).
وهذا مثال يدل على أهمية السياق في ترجيح إحدى الروايات في أسباب النزول على الباقي:
فقد أورد ابن جرير في قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ﴾ [آل عمران: 31] روايتين في سبب نزولها، ثم قال: “وأولى القولين بتأويل الآية: قول محمد بن جعفر بن الزبير _يعني أنها نزلت في وفد نجران_ لأنه لم يَجرِ لغير وفد نجران في هذه السورة ولا قبل هذه الآية ذكرُ قومٍ ادَّعوا أنهم يحبون الله، ولا أنهم يعظمونه”([27]).
المطلب الرابع: العام إذا ورد على سبب خاص
إذا وردت آية قرآنية أو نص شرعي، وكان لوروده سبب نزل لبيانه؛ كأن كانت الآية جوابًا لسؤال، أو بيانًا لحكم شرعي إثر واقعة وقعت، وكان نص الآية عامًّا، فهل يقال بأن الآية عامة تشمل كل واقعة مثل تلك الواقعة؟ أو الحكم خاص بالسائل أو الواقعة التي وردت الآية بيانًا لها؟ ويعبر العلماء عن ذلك بقولهم: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟
القول الأول: الجمهور، ذهبوا إلى أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
القول الثاني: المزني وأبو ثور وأبو بكر القفال والدقاق، قالوا: يقتصر على السبب ولا يعم.
أدلة القول الأول:
- أن الدليل هو قول صاحب الشريعة فاعتبر عمومه كما لو تجرد عن السبب.
- أن كل لفظ لو تجرد عن سؤال خاص حُمل على عمومه، فكذلك إذا تقدمه سؤال.
- أنه لو كان السؤال عامًّا والجواب خاصًّا اعتُبر خصوص الجواب دون عموم السؤال، فكذلك السؤال إذا كان السؤال خاصًّا والجواب عامًّا وجب أن يعتبر عموم الجواب.
- أن قول السائل ليس بحجة، فلا يجوز أن يخص به عموم السنة.
- أنه لو كان الاعتبار بخصوص السؤال لوجب أن يختص السائل بالجواب، حتى لا يدخل غيره فيه، وقد أجمع المسلمون على عموم آية القذف، وإن كانت نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها خاصة، وعموم آية اللعان، وإن كانت نزلت في شان هلال بن أمية وامرأته، وعموم آية الظهار، وإن كانت نزلت في شأن رجل بعينه، فدل على أنه لا اعتبار بالسبب([28]).
أدلة القول الثاني:
- أن السؤال مع الجواب كالجملة الواحدة، بدليل: أن السؤال هو المقتضي للجواب، وبدليل أن الجواب إذا كان مبهمًا أُحيل في بيانه على السؤال، فإذا ثبت أنهما كالجملة الواحدة وجب أن يصير السؤال مقدرًا في الجواب فيُخصص الحكم به([29]).
- أن من حق الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال، وإنما يكون مطابقًا بالمساواة، وإذا أجرينا اللفظ على عمومه لم يكن مطابقًا.
يُرَدُّ على استدلالهم الأول بأن السؤال مع الجواب كالجملة الواحدة: أنه إن كان كذلك فهو في قدر ما يكون جوابًا عن السؤال، وأما فيما يزيد عليه فلا.
وأما قولهم: إن من حق الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال، قلنا: هذا غير مَسَلَّم؛ إذ لا يلزم المجيب ألَّا يُجيب إلا بقدر السؤال، لا من حيث العادة ولا من حيث الشريعة، ألا ترى أن الله تعالى سأل موسى عليه السلام عمّا في يمينه فقال: ﴿وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ﴾ [طه: 17]، فأجاب موسى: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ﴾ [طه: 18]([30]).
ولكن هذه القاعدة التي عليها الجمهور؛ أن العبرة بعموم اللفظ ليست على إطلاقها في كل الحالات، فلهذه القاعدة بعض الاستثناءات، فيستثنى منها أمران، فلا يُلتفت إلى العموم فيهما، ويكن الحكم فيهما مخصوصًا بالسبب أو بالسياق الذي وردت فيه الحادثة، ولا بد من التنبيه عليهما، وهما:
الأول: إذا وُجد مُعارض لهذا العموم؛ فينبغي أن يُحمل اللفظ على خصوص السبب، مثال ذلك: حديث النهي عن قتل النساء والصبيان([31])، فقد أخذ أبو حنيفة بعمومه، وقال: المرأة المرتدة لا تقتل، ولكن جمهور العلماء خصصوه بالسبب؛ فإنه ورد في امرأة مقتولة مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فنهى إذا ذاك عن قتل النساء والصبيان، وقد وُجِد معارض لهذا الحديث، وهو حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “مَن بدَّل دينَه فاقتلوه”([32]) وغيره من الأدلة([33]).
الثاني: دلالة السياق والقرائن، فإنها تُخصص العام، وقد نبه على ذلك ابن دقيق العيد، فيما نقله عنه تاج الدين السبكي، فقال: “يجب أن يتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم، وبين ورود العام على سبب، ولا تجري مجرى واحدًا، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يخصصه، وأما السياق والقرائن فإنها الدالة على المراد ، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات. قال: فاضبط هذه القاعدة؛ فإنها مفيدة في مواضع لا تُحصى، وانظر قوله صلى الله عليه وسلم: “ليس من البر الصيام في السفر”([34]) مِن أيِّ من القبيلين هو منزله عليه… ومن النظر إلى السياق: ما في فروع الطلاق من الرافعي: أنه لو قال لزوجته: إن علمتِ من أختي شيئًا، ولم تقوليه فأنتِ طالق، فتنصرف إلى ما يوجب ريبة ويوهم فاحشة، دون ما لا يقصد العلم به كالأكل والشراب”([35]).
فإذا ورد نصّ ضمن سياق معين، ودلت القرائن والسياق على اختصاصه بالواقعة، فلا تنطبق عليه قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإنما يختص بالواقعة التي ورد فيها النص، وقد أشار السبكي إلى ذلك بالحديث الذي أورده في النهي عن الصيام في السفر، فإننا إن عدنا إلى الحديث ونظرنا في سياق وروده، نجد أنه ورد في رجل أوشك على الهلاك من شدة الحر، فعند ذلك قال عليه الصلاة والسلام: “ليس من البر أن تصوموا في السفر”، ولا يمكن أن نحمل هذا النهي على العموم؛ وذلك بسبب السياق الذي ورد فيه النص، وفيما إذا وصل الإنسان إلى حالة كحالة الرجل الذي وصل به الوهن والضعف إلى حد الهلاك والإضرار بالنفس، وإلا فإن الآية جعلت الصيام أفضل، فقال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِدۡيَةٌ طَعَامُ مِسۡكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرًا فَهُوَ خَيرٌ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَيۡرٌ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: 184]، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حارٍّ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة”([36]).
المصادر:
[1] انظر: القاضي عياض، مشارق الأنوار على صحاح الآثار، المكتبة العتيقة ودار التراث (2/231) مادة: سوق. ابن منظور محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414ه، (10/166) مادة: ساق. اليحصبي عياض بن موسى،
[2] الزمخشري، محمود بن عمرو، أساس البلاغة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419ه، 1998م، (1/4848).
[3] الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، (4/290).
[4] ابن دقيق العيد، محمد بن علي، شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، دار النوادر، سوريا، الطبعة الثانية، 1430ه، 2009م، (1/126).
[5] هو عبد الرحمن بن جاد الله البناني، نسبة إلى قرية بنان في إفريقية، فقيه محقق، قدم مصر وجاور في الجامع الأزهر، من تصانيفه: حاشية على شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع، توفي سنة 1198ه، 1783م. ينظر: مخلوف، محمد بن محمد، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1424ه، 2003م، (1/494).
[6] البناني، عبد الرحمن بن جاد الله، حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، طبعة مصطفى البابي الحلبي، (1/11).
[7] أبو صفية، عبد الوهاب رشيد، دلالة السياق منهج مأمون لتفسير القرآن الكريم، (86).
[8] هو أشرف بن محمود بن عقلة الكناني، مدرس القراءات وأصول الفقه في كلية الشريعة جامعة اليرموك، في الأردن. وهو أستاذ مشارك في جامعة أم القرى، كلية الشريعة.
[9] الكناني، أشرف بن محمود الكناني، الأدلة الاستئناسية عند الأصوليين، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1425ه، 2005م. (222).
[10] الشهراني، سعيد بن محمد، السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، كرسي القرآن وعلومه، جامعة الملك سعود، الطبعة الأولى، 1436ه، (29).
[11] انظر: جغيم، نعمان، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1422ه، 2002م،
[12] انظر: الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى 1357ه، 1938م، (63).
[13] الشاطبي، الموافقات، (4/146).
[14] انظر: جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، (102).
[15] الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى (ت790)، الموافقات، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417ه، 1997 م، (4/266).
[16] ابن القيم، محمد بن أبي بكر (ت751)، بدائع الفوائد، دار عطاءات العلم، الرياض، الطبعة الخامسة، 1440 ه، 2019 م، (4/1414).
[17] ابن عاشور، محمد الظاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر، 1425ه، 2004م، (3/81).
[18] أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الصَّفا والمَروة وجُعِل من شعائر الله، رقم (1643)، (2/157). ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمرة ركن لا يصح الحج إلا به، رقم 1277)، (2/929).
[19] الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر، البرهان في علوم القرآن، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1376ه، 1957م، (1/36).
[20] ابن منظور، لسان العرب، (1/459).
[21] المناوي، عبد الرؤوف بن تاج العارفين، التوقيف على مهمات التعريف، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1410ه، 1990م، (323).
[22] الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، مطبعة عيسى البابي الحلبي، الطبعة الثالثة، (1/106).
[23] انظر: الواحدي، علي بن أحمد، أسباب نزول القرآن، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1411ه، (10). وانظر: ابن دقيق، محمد بن علي، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، مطبعة السنة المحمدية، (2/259).
[25] أخرجه البخاري، سورة آل عمران، باب لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا، رقم (4568)، (6/40). ومسلم، كتاب التوبة، باب صفات المنافقين، رقم (2778)، (4/2143).
[26] الشاطبي، الموافقات، (4/146).
[27] الطبري، جامع البيان، (6/324).
[28] انظر: أبو إسحاق الشيرازي، التبصرة في أصول الفقه، دار الفكر، الطبعة الأولى، (146).
[29] انظر: الشيرازي، إبراهيم بن علي بن يوسف، التبصرة في أصول الفقه، (145،146). وانظر: السمعاني، منصور بن محمد، قواطع الأدلة في الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418ه، 1999م، (1/193).
[30] انظر: السمعاني، قواطع الأدلة في الأصول، (1/195،196).
[31] أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قتل النساء في الحرب، رقم (3015)، (4/61)، ولفظه: “وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان”. وأخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، رقم (1744)، (3/1364).
[32] أخرجه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، رقم (6922).
[33] انظر: السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411ه، 1991م، (2/136).
[34] أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر، رقم (1115)، (2/786)، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره، فرأى رجلًا قد اجتمع الناس عليه، وقد ظُلِّل عليه، فقال: “ما له؟” قالوا: رجل صائم. فقال رسول الله عليه وسلم: “ليس من البر أن تصوموا في السفر”
[35] السبكي، الأشباه والنظائر، (2/135،136).
[36] البخاري، كتاب الصوم، باب إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر، رقم (1945)، (3/34). ومسلم، كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، رقم (1122)، (2/790).