معنى السياق وأقسامه وأهميته
المطلب الأول: تعريف السياق
السياق في اللغة: التتابع، تساوقت الإبل؛ أي: تتابعت، وسوَّاق الإبل: الذي يَقْدَمها ويسوقها أمامه للمرعى والماء.
ويطلق السياق كذلك على المهر؛ لأن أصل المهر عند العرب الإبل والغنم، وكانوا يسوقونها عند الزواج مهرًا، ثم استعمل في المهر وإن لم يكن إبلًا ولا غنمًا([1]).
وفي أساس البلاغة: “يسوق الحديث أحسن سياق، وإليك يساق الحديث، وهذا الكلام على مساقه إلى كذا، وجئتك بالحديث على سوقه: على سرده”([2]).
السياق في الاصطلاح:
التعريف الاصطلاحي مأخوذ من المعنى اللغوي، فهو يحمل معنى التتابع وتوالي الكلام إثر بعضه، وهناك تعريفات كثيرة للسياق؛ فموضوع السياق أُلِّفت فيه كتب ورسائل عديدة، وسأقتصر على ذكر أهم التعاريف؛ لأن الهدف هو إيضاح معنى السياق.
لم يورد العلماء القدامى تعريفًا للسياق، ولكن ذكروا ما يمكن أن يعتمد عليه في وضع تعريف له، ومما ذكروه في شأن السياق، ما أورد الزركشي في البحر المحيط، حيث قال: “ويجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن، لأن بذلك يتبين مقصود الكلام”([3])، حيث بين أن السياق ما يدل على مقصود الكلام.
وكذلك ما ذكره ابن دقيق العيد في أثناء كلامه عن السياق، حيث قال: “لأن السياقَ مبيِّنٌ للمجمَلات، مرجِّح لبعض المحتمَلات، مؤكِّد للواضحات”([4]). يفهم من هذا أن السياق له تأثير على بيان المجمل، وترجيح أحد المعاني المحتملة، وتأكيد ما هو واضح.
تعريف البناني([5])، عرفه بأنه: “ما يدل على خصوص المقصود من سابق الكلام المسوق لذلك أو لاحقه”([6]).
وعرفه عبد الوهاب أبو صفية: “الكلام الذي خرج مخرجًا واحدًا، واشتمل على غرض واحد، هو المقصود الأصلي للمتكلم، وما انتظمت أجزاؤه في نسق واحد”([7]).
ويؤخذ على هذين التعريفين أنهما حصرا السياق في الجانب المقالي أو اللغوي، المتضمن للسباق واللحاق، ولم يعتبرا السياق المقام أو الحال.
وعرفه أشرف الكناني([8]): بأنه “الكلام المتتابع إثره على إثر بعض، المقصود للمتكلم، والذي يلزم من فهمه فهم شيء آخر”([9]).
ومما يؤخذ على هذا التعريف غير اقتصاره على السياق اللغوي، أنه جعل لازمًا من فهمه فهم شيء آخر، وهذا ليس بلازم؛ فقد يتغير الفهم عند تأمل السياق الذي ورد فيه النص، وربما لا يحدث التأمل في السياق أي تغيير في الفهم فيما لو قطع النص عن سياقه، فقد يرد كلام يتعلق بعضه ببعض ولكن لو أخذت كل قطعة منه على حدة فإنها تُفهم كما لو كانت ضمن السياق الذي وردت به.
وعرفه سعيد بن محمد الشهراني بقوله: “هو ما يحيط بالنص من عوامل داخلية أو خارجية، لها أثر في فهمه، من سابق أو لاحق به، أو حال المخاطِب والمخاطَب، والغرض الذي سيق له، والجو الذي نزل فيه”([10]).
وهذا أوفق التعاريف وأكثرها دقة وشمولًا؛ لأنه أدخل في التعريف سياق الحال أو المقام، وهو ما يصاحب النص من أحوال وعوامل خارجية لها أثر في فهمه؛ كحال المتكلم والمخاطب والبيئة التي ورد فيها والغرض الذي سيق له. وهذه كلها لها تأثير على الفهم الصحيح للنص.
المطلب الثاني: أقسام السياق
ينقسم السياق إلى قسمين:
الأول: سياق المقال (السياق اللغوي)
ويتمثل في الجُمَل المكوِّنة والسابقة واللاحقة لنص الخطاب المراد تفسيره واستخلاص المقصود منه. وهو ينقسم إلى: سياق خاص؛ وهو السابق واللاحق للنص نفسه، وسياق عام؛ أي النصوص الأخرى التي لها علاقة بهذا النص، مع ورودها في مواضع وأزمنة مختلفة، حيث يكون استحضار تلك النصوص معينًا على فهم هذا النص([11]).
مثال تأثير سياق المقال على فهم النص: قوله تعالى: ﴿وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ﴾ [الأعراف: 163]، الذي يفهم من الآية أن السؤال عن القرية ذاتها، ولكن قوله بعد ذلك: ﴿إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ﴾ دلت على أن المراد هو السؤال عن أهل القرية؛ لأن القرية لا تكون عادية([12]).
الثاني: سياق المقام (الحال)
ويدخل فيه البيئة والظروف الاجتماعية السائدة وقت ورود النص، وتاريخ وروده والمكان الذي ورد فيه، ويدخل فيه أيضًا أسباب النزول، فهذه كلها عوامل لها أهمية في الفهم الصحيح للنص، ولذلك نجد أن الكلام المشافَه به أوضح دلالة على مراد المتحدث من الكلام الذي بلَّغه عنه مبلِّغ، أو الكلام الذي نُقل كتابة دون نقل الظروف والأحوال التي ورد بها الكلام، وفي ذلك يقول الشاطبي: “وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة؛ فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه”([13]).
وليس من اللازم أن يحتاج كل كلام إلى نقل الظروف المحيطة به والسياق الذي ورد فيه؛ لأنه ليس كل كلام واردًا في مقام خاص، بل منه ما يكون على سبيل التوجيه والإرشاد؛ كما في كثير من الآيات التي نزلت من غير سبب خاص، وإنما الذي يحتاج إلى الاطلاع على المقام لتحديد معناه، هو ما ورد في مقام خاص([14]).
وهذا له تعلق بأسباب النزول؛ لأن أسباب النزول جزء من سياق المقام، وهذا ما سأذكره بعد قليل إن شاء الله.
المطلب الثالث: أهمية السياق وعناية العلماء به
للسياق أهمية كبيرة في فهم مراد المتكلم، فقد يكون ظاهر الكلام دالًّا على معنى متبادر من اللفظ، ولكن إذا نظرنا في سياقه الذي جاء فيه، نجد المعنى يختلف تمامًا، كما في قوله تعالى: ﵟذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُﵞ [الدخان: 49]، فالعزيز الكريم هنا ليست على المعنى المتبادر منها، إنما المراد بها الاستهزاء، ومعناها: الحقير الذليل، فهمنا هذا المعنى من سياق الآيات: ﵟإِنَّ شَجَرَتَ ٱلزَّقُّومِ ٤٣ طَعَامُ ٱلۡأَثِيمِﵞ [الدخان: 43-44] إلى قوله: ﵟثُمَّ صُبُّواْ فَوۡقَ رَأۡسِهِۦ مِنۡ عَذَابِ ٱلۡحَمِيمِﵞ [الدخان: 48].
يقول الشاطبي: “المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل… فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها؛ فإن القضية وإن اشتملت على جمل؛ فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرّق النظر في أجزائه؛ فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض… وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل؛ فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر”([15]).
ومن فوائد معرفة السياق ما ذكره ابن القيم، حيث قال: “السياق يرشدُ إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالَّة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته”([16]).
فمراعاة السياق من أهم الأسباب المؤدية إلى حسن فهم النص الشرعي، ودفع الفهوم والتفسيرات المُتَفَلِّتة من ضوابط وقوانين الفهم السليم.
يقول الطاهر بن عاشور: “لم يستغنِ المتكلمون والسامعون عن أن تحف بالكلام ملامحُ من سياق الكلام، ومقام الخطاب، ومبيّناتٌ من البساط، لتتظافر تلك الأشياءُ الحافة بالكلام على إزالة احتمالاتٍ كانت تعرض للسامع في مراد المتكلم من كلامه. ولذلك تجدُ الكلامَ الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بَلَّغَه عنه مبلّغ، وتجد الكلامَ المكتوب أكثرَ احتمالاتٍ من الكلام المبلّغ بلفظه بله المشافه به؛ من أجل فقده دلالة السياق وملامح المتكلّم والمبلّغ، وإن كان هو أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم.
ومن هنا يقصر بعض العلماء ويتوحّل في خَضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجّه رأيه إلى اللفظ مقتنعاً به، فلا يزال يقلَّبه ويحلّله ويأمل أن يستخرج لُبَّه. ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحفُّ بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق… وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرّفات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا على استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدّون الرحال إلى المدينة ليتبصّروا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين. هنالك يتبيّن لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، وليتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعاً لمعرفة الحكم والمقاصد”([17]).
ومن الأمثلة على ذلك: استدلال عائشة على وجوب السعي بين الصفا والمروة بقرائن السياق المقالية والمقامية؛ عن عروة بن الزبير، قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَيۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ﴾ [البقرة: 158]، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوَّلتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنـزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يُهِلُّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل، فكان من أهلَّ يَتَحرَّج أن يطوف بالصفا والمروة، فلمّا أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرَّج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنـزل الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ ﴾ [البقرة: 158] الآية، قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بينهما([18]).
فقد استدلت عائشة رضي الله عنها على قطعيّة وجوب السعي بين الصفا والمروة بقرينة مقالية، وقرينتين مقاميَّتين؛ فالمقالية، هي: أنه لو كان المراد إباحة الطواف لا وجوبه، لكان النص: {فلا جناح عليه ألَّا يتطوف بهما}، والقرينتان المقاليتان هما: سبب نـزول الآية الدالِّ على تحرُّج الأنصار من الطواف بهما، والأخرى هي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يتعلق بالسياق علم المكي والمدني، فهو يضيف للنص بُعداً زمنياً ومكانياً يمكن الإفادة منه في توجيه معنى النص، وتطبيقه في الأزمنة التي تناسب الحال الذي نزل فيها؛ لذا لم يقف الحذاق من المفسرين على تحديد معنى اللفظ، وإنما تجاوزوه إلى ربطه بالسابق واللاحق من الآيات، ومن هنا نشأ ما يعرف بعلم المناسبات، وفائدته كما ذكر الزركشي “جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء”([19]).
[1] انظر: القاضي عياض، مشارق الأنوار على صحاح الآثار، المكتبة العتيقة ودار التراث (2/231) مادة: سوق. ابن منظور محمد بن مكرم، لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414ه، (10/166) مادة: ساق. اليحصبي عياض بن موسى،
[2] الزمخشري، محمود بن عمرو، أساس البلاغة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419ه، 1998م، (1/4848).
[3] الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، (4/290).
[4] ابن دقيق العيد، محمد بن علي، شرح الإلمام بأحاديث الأحكام، دار النوادر، سوريا، الطبعة الثانية، 1430ه، 2009م، (1/126).
[5] هو عبد الرحمن بن جاد الله البناني، نسبة إلى قرية بنان في إفريقية، فقيه محقق، قدم مصر وجاور في الجامع الأزهر، من تصانيفه: حاشية على شرح جلال الدين المحلي على جمع الجوامع، توفي سنة 1198ه، 1783م. ينظر: مخلوف، محمد بن محمد، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1424ه، 2003م، (1/494).
[6] البناني، عبد الرحمن بن جاد الله، حاشية البناني على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، طبعة مصطفى البابي الحلبي، (1/11).
[7] أبو صفية، عبد الوهاب رشيد، دلالة السياق منهج مأمون لتفسير القرآن الكريم، (86).
[8] هو أشرف بن محمود بن عقلة الكناني، مدرس القراءات وأصول الفقه في كلية الشريعة جامعة اليرموك، في الأردن. وهو أستاذ مشارك في جامعة أم القرى، كلية الشريعة.
[9] الكناني، أشرف بن محمود الكناني، الأدلة الاستئناسية عند الأصوليين، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1425ه، 2005م. (222).
[10] الشهراني، سعيد بن محمد، السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، كرسي القرآن وعلومه، جامعة الملك سعود، الطبعة الأولى، 1436ه، (29).
[11] انظر: جغيم، نعمان، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1422ه، 2002م،
[12] انظر: الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الأولى 1357ه، 1938م، (63).
[13] الشاطبي، الموافقات، (4/146).
[14] انظر: جغيم، طرق الكشف عن مقاصد الشارع، (102).
[15] الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى (ت790)، الموافقات، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417ه، 1997 م، (4/266).
[16] ابن القيم، محمد بن أبي بكر (ت751)، بدائع الفوائد، دار عطاءات العلم، الرياض، الطبعة الخامسة، 1440 ه، 2019 م، (4/1414).
[17] ابن عاشور، محمد الظاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر، 1425ه، 2004م، (3/81).
[18] أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الصَّفا والمَروة وجُعِل من شعائر الله، رقم (1643)، (2/157). ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمرة ركن لا يصح الحج إلا به، رقم 1277)، (2/929).
[19] الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر، البرهان في علوم القرآن، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1376ه، 1957م، (1/36).
Hi, this is a comment.
To get started with moderating, editing, and deleting comments, please visit the Comments screen in the dashboard.